ثم قال: (قال
أبو داود : حدثنا
حماد بن سلمة عن
يعلى بن حكيم عن
سعيد بن جبير: أنه حدث بحديث فقال له رجل من أهل
الكوفة: إن الله تعالى يقول في كتابه كذا وكذا) فهذا
سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه من التابعين الأجلاء، حدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة من المسائل، فقام هذا الرجل من أهل
الكوفة -وهي بيئة النفاق والشقاق والفتنة في صدر الإسلام- فقال: إن الله يقول في كتابه كذا وكذا. فاعترض على الحديث بالآية، فقال: فغضب
سعيد وقال: [
لا أراك تعرض في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك] أي: يقول: النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك، فإذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعارضه بالآية، فإذا كانت الأحاديث الثابتة الصحيحة في مسألة لا تعارض بعموم الآيات، فكيف بمن يعارض الحديث بالهوى والكشف والذوق والخيال؟! إن هذا أشد. ثم قال: (فإذا كان هذا إنكارهم على من عارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فماذا تراهم قائلين لمن عارضها بآراء المتكلمين، ومنطق المتفلسفين، وأقيسة المتكلمين، وخيالات المتصوفين، وسياسات المعتدين؟!) لا يمكن أن يقروه؛ لأنه لا يمكن أن يتعارض الحديث مع الآية، فإن الذي قال هذا الحديث أعلم بالقرآن، والله أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم: ((
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، هو الذي يبين ذلك فكيف يعارضه؟ وإذا كان هذا في القرآن فكيف يعارض بكلام أحد كائناً من كان، ولو كان من خيار الأمة؟! فكيف إذا كان يعارض بكلام المشركين من اليونان، والصابئين وأمثالهم، وضلالات المضلين، وشطحات المتصوفين، أو أحكام وسياسات الجائرين الظالمين المعتدين؟! ثم قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولله
بلال بن سعد حيث يقول: [
ثلاث لا يقبل الله معهن عمل: الشرك والكفر والرأي، قلت: يا أبا عمرو وما الرأي؟ قال: يترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: بالرأي] فالذي يترك السنة ويقول بالرأي لا يقبل الله معه عمل والعياذ بالله، (وقال
أبو العالية الرياحي -إمام معروف- في قول الله عز وجل: ((
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30]: قال: [
أخلصوا لله الدين والعمل والدعوة]) فقوله: (أخلصوا لله الدين) أي: فلا يؤمنون إلا به، ولا يشركون به شيئاً، وقوله: (العمل) أي: لا يراءون أحداً بعملهم كما أمر الله تبارك وتعالى بذلك، فقال: ((
وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ))[الكهف:110]، وقوله: (والدعوة) أي: يدعون إليه وحده، لا يدعون إلى طائفة أو جماعة أو حزب، أو فرد، أو مذهب، أو تحكيم منطق أو فلسفة، وإنما يدعون إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وما عدا ذلك فهو تبع، فالطائفة أو الحزب أو المذهب أو أي شيء هو تبع لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (جردوا الدعوة إليه وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لا إلى رأي فلان ولا إلى قول فلان) أي: يدعون إلى ما أنزل الله، لا إلى رأي فلان ولا قول فلان. ثم قال: (وقال
سفيان في قوله تعالى: ((
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))[النور:63]) هذه الآية العظيمة التي أنزلها الله تعالى للتحذير ممن يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستئذان أو في غيره، كما حصل في يوم الخندق أو في أي أمر، وحكم ما بعد موته هو كحكم ما في حياته، يقول
سفيان: [
الفتنة: يطبع على قلوبهم]. أي: يطبع على قلوبهم -والعياذ بالله- لمخالفته صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام
أحمد: [
إنما هي الكفر] أي: فليحذر الذين يخالفون سنته صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم عقوبة الكفر، فيعاقبوا بأن يكفروا والعياذ بالله. ثم قال: (ولقي
عبد الله بن عمر جابر بن زيد في الطواف فقال له: يا
أبا الشعثاء إنك من فقهاء
البصرة). أي:
جابر بن زيد من الفقهاء في
البصرة المعروفين الذي تدعيه اليوم طائفة من طوائف الضلال وهي
الإباضية، فقال له: [
إنك من الفقهاء -أي: شهد له عبد الله بن عمر بأنه من الفقهاء- فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت] وهكذا تكون الفتوى، بالقرآن أو بالسنة، وما كان منهما إذا كان الاجتهاد فيهما أو في فهمهما فهو من الرد إليهما. ثم قال: (وقال
ابن خزيمة : قلت: لـ
أحمد بن نصر وحدث بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [
أما تأخذ به؟ -أي: أنه ذكر حديثاً فقال: أما تأخذ بهذا الحديث؟- فقال: أترى وسطي زناراً، لا تقل لخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أتأخذ به؟ وقل: أصحيح هو ذا؟ -أي: هل هو صحيح؟- فإذا صح وجب العمل به، قال: فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت، شئت به أم أبيت]) أي: لا بد أن أقول به، شئت أم أبيت، وافق هواي أو لم يوافق، ويجب أن أفتي به وأن أتبعه.ثم قال: (وقال
أفلح مولى أم سلمة : إنها كانت تحدثه أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهي تمتشط: (
أيها الناس! فقالت لماشطتها: كفي رأسي -أي: كفي لا تمشطي- فقالت: فديتك، إنما يقول: أيها الناس! -أي: أنه لا يخاطبنا، لكن يخاطب الذي في المسجد- فقالت: ويحك! أولسنا من الناس؟ -أي: قفي حتى نسمع ماذا يقول فنعمل به- فكفت رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول: يا أيها الناس! بينا أنا على حوضي، إذ مر بكم زمراً، فتفرقت بكم الطرق فناديتكم )، أي: بينما أنا على الحوض -يضرب لهم مثلاً أو يشبه لهم ما يقع يوم القيامة- فإذا بهم يمرون به زمراً أو مجموعات، فتفرقت بكم الطرق فناديتكم: (
ألا هلم إلى الطريق، فينادي منادٍ: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) ) وقد تقدمت أحاديث الحوض، وأنه قد ثبت من عدة طرق عن جمع من الصحابة: أن قوماً يذادون -أي: يطردون- عن الحوض، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم يقول: (
أمتي أمتي؟ فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، كالذين اتبعوا البدع والأهواء والضلالات، من
خوارج و
مرجئة و
معتزلة و
صوفية و
روافض و
شيعة ، ومن أعظمهم: المرتدون الذين ارتدوا على أعقابهم بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكل من ارتد عن سنته صلى الله عليه وسلم، وكل من أنكر سنته وتنكر لها، فإنه لن يرد حوضه، وإنما يقال له: بعداً بعداً، أو سحقاً سحقاً، فلا يبالي بهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أحدثوا وبدلوا، ولو كانت مجرد ذنوب أو معاصٍ لأمكن أن يشفع فيهم صلى الله عليه وسلم. ثم قال رحمه الله: (وهذه الطرق التي تفرقت بهم -يعني في هذا الحديث- هي الطرق والمذاهب التي ذهبوا إليها، وأعرضوا عن طريقه ومذهبه صلى الله عليه وسلم، فلا يجوزون -أي: لا يعبرون ويمرون- على الطريق التي هو عليها يوم القيامة، كما لم يسلكوا الطريق التي كان عليها هو وأصحابه) أي: في الدنيا، كما في حديث
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لما خط صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً في الوسط، وعن يمينه خطوطاً وعن يساره، ثم قال: ((
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))[الأنعام:153]، فهذه هي الوصية العاشرة من الوصايا العشر التي أنزلها الله تبارك وتعالى على كل نبي، وهي في آخر سورة الأنعام، وقد قال
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: [
من أراد أن ينظر إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات].